الفلسفة للشعب العلمية (تونس)الجزء 3
صفحة 1 من اصل 1
الفلسفة للشعب العلمية (تونس)الجزء 3
التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير 2. الأنا المتعالي ومستويات الوعي في فلسفة سارتر في فلسفة سارتر (الجزء الثاني) إن وجود الأنا المتعالي عند ديكارت كما عند هوسرل هو وجود بديهي ودائم الحضور على مستوى الوعي؛ يتوقف وجوده، إذن، على استمرارية التفكير. ذلك لأن الوعي المتجه نحو ذاته هو الذي أفرز الكوجيطو سواء عند ديكارت أو عند هوسرل. ولكن الكوجيطو لا يمثل سوى وجه واحد من أوجه الوعي في نظر سارتر؛ لقد بدت له تحليلات ديكارت وهوسرل لظواهر الوعي منقوصة ومحدودة للغاية، من حيث أنهما لم يتمكنا من التمييز في الوعي بين مختلف مستوياته؛ وأما سارتر فقد حاول التمييز فيه بين مستويين وهما: أ- المستوى الأول من الوعي: وهو الوعي غير المفكَّر فيه أو الذي ينصب على غيره ولا ينصب على نفسه. فالوعي الذي يقول "أنا أفكر" ليس هو الوعي الذي يفكر أو الوعي العارف، ولذلك كان لابد من التمييز بين "الوعي المفكَّر فيه" والذي يمثل بالنسبة لسارتر المستوى الثاني من الوعي، و"الوعي الذي يفكر" (الوعي العارف) أو المستوى الأول من الوعي. يقول سارتر موضحا طبيعة المستوى الأول من الوعي: "عندما أركض لركوب البميترو، وعندما أرقب الساعة، أو عندما يستغرقني التأمل في صورة أو لوحة، فليس هناك أنا. هناك وعي بميترو- يراد- ركوبه، الخ" يمكن التمييز في إطار المستوى الأول من الوعي (=الوعي العارف) بين نوعين متعارضين من الموجودات وهما: الوجود المتعالي للظاهرة التي يعيش الفرد تجربتها، من جهة، ووجود الوعي القصدي من جهة أخرى. يقوم هذا التمييز من حيث المبدأ على تصور هوسرل للوعي باعتباره دائما وعيا بشيء ما، وهو ما يمكن تسميته أيضا بالوعي القصدي. وبناء على هذا التصور يبدو موضوع الفعل القصدي من زاوية نظر سارتر على أنه موضوع متعالي، بمعنى أنه يمتد إلى ما وراء الظاهرة التي يقدم نفسه للوعي من خلالها لاحتوائه على سلسلة مظاهرها التي تمتد من الماضي إلى المستقبل كما يدل على ذلك مثال النوطة الموسيقية التي لا تُدْرَكُ إلا من خلال استحضار ما كان قبلها وتوقع ما يأتي بعدها. ويدل مفهوم التعالي في هذا السياق أيضا على أن الموضوع يوجد خارج الوعي ولكنه يظل مع ذلك مرتبطا به باعتباره موضوع الفعل القصدي أو الموضوع الذي يتجه إليه الوعي. ومع أن المستوى الأول من الوعي يبدو على أنه وعي تلقائي غير مُفَكَّر فيه، فإنه يحتاج مع ذلك، لكي يؤدي وظيفته المتمثلة في الإحاطة بالموضوعات الخارجية أو المتعالية، إلى أن يكون مرفوقا بنوع من الإدراك أو الوعي الخاص: فلكي يكون المرء على وعي بموضوع متعالي فلابد أن يعي بأنه على وعي، أو أن يعقل أنه يعقل حسب تعبير ابن سينا؛ ولابد أن تكون بنية هذا النوع من الوعي الذي هو وعي أو معرفة بالذات مختلفة عن بنية المعرفة بالموضوعات المتعالية، من حيث أن هذه الأخيرة تفترض وجود مسافة بين الوعي وموضوعه ولا تتحقق إلا من خلال التعالي، وأما المعرفة الذاتية فهي ليست معرفة بهذا المعنى، ومع ذلك احتفظ سارتر بمفهوم الوعي بالذات، وبرر ذلك بقوله: "إن الشرط الضروري والكافي الذي يجعل من الوعي العارف معرفة بموضوعه هو الوعي بذاته بوصفه يمثل تلك المعرفة. [...] فإن لم يكن وعيي هو الوعي بكونه وعيا بالطاولة، فسيكون حينئذ وعيا بالطاولة من غير أن يكون على وعي بذلك. ويمكن القول بعبارة أخرى إنه سيكون وعيا جاهلا لذاته، عبارة عن لاوعي- وهو أمر غير معقول" ويتضح من هذا الدليل أنه لا مكان لبنية الأنا داخل المستوى الأول من الوعي (=الوعي غير المُفكَّر فيه)، ولذلك يظل وعيا فارغا خال من أي مضمون. لم بعد للأنا المتعالي إذن حضور على مستوى الوعي غير المُفكَّر فيه؛ يقول سارتر بهذا الصدد: "عندما أقرأ، يكون هناك وعي بالكتاب، بأبطال الرواية، لكن الأنا لم تكن تسكن ذلك الوعي. كان وعيا بالموضوع فحسب، ولم يكن مطروحا كوعي لذاته" فلو كان للأنا المتعالي حضور في المستوى الأول من الوعي لكان قد شطره وقسمه إلى أجزاء منفصلة عن بعضها البعض، وقضى على وحدته الجوهرية التي بدونها يستحيل الوعي بأي شيء كما أوضحنا ذلك آنفا. والنتيجة هي أنه يجب النظر إلى الأنا المتعالي على أنه موضوع كغيره من الموضوعات الأخرى المتعالية، ليس له حضور على مستوى الوعي. ب- المستوى الثاني من الوعي: وهو الوعي المتجه نحو ذاته، أو الفعل القصدي الذي يجعل من نشاطه موضوعا له، ذلك الفعل الذي أفرز الكوجيطو الديكارتي والهوسرلي. إنه "نشاط فكري خالص": بتطابق فيه فعل التفكير مع الفعل المُفكَّر فيه، ويعرف الوعي من خلاله ذاته بوصفه كينونة داخلية مطلقة. وفي سياق هذه التجربة الوجودية الخالصة فقط يقدم الأنا نفسه للوعي باعتباره موضوعا متعاليا. وما يجعل ذلك ممكنا هو رغبة الوعي في أن يطرح نفسه كموضوع على الطريقة التي يطرح بها وعي "الغير". ويميز سارتر في المستوى الثاني بين نوعين من الوعي وهما: الوعي المفكِّر والوعي المفكَّر فيه. ويكتسي النوع الثاني من الوعي (= المفكَّر فيه) أهمية خاصة في إستراتيجية سارتر لإيجاد حل لمسألة وجود الأنا المتعالي. لقد رفض سارتر أطروحة هوسرل التي تقول بأن الأنا المتعالي معطى بشكل بديهي في الوعي، بدعوى أن الـ"أنا أفكر" لا يقدم نفسه للوعي أو التفكير بوصفه الوعي المفكَّر فيه، ولكنه يُعطى من خلال الوعي المفكَّر فيه: ففي هذا الأخير نعثر على الأفعال القصدية noèses التي أصبحت أفعالا متعالية بفضل فعل التفكير، وتحولت فيه إلى موضوعات للوعي. وتأخذ الأفعال القصدية (المتجهة نحو موضوع معين) في إطار فعل التفكير شكل موضوعات نفسية متعالية وهي "الأحوال" و"الأفعال" و"الصفات" التي تؤلف في مجموعها الأنا المتعالي. تؤلف الأفعال والأحوال النفسية في مجموعها الأنا المتعالي تماما مثلما تتشكل المعزوفة من سلسلة زمنية من النوطات على النحو المبين أعلاه. والمقصود بـ"الأحوال" في فلسفة سارتر تلك الموضوعات المتعالية التي تجمع في إطار تركيبة واحدة متعالية بين عدد لا حصر له من الأفعال الخاصة المتمثلة في ردود الفعل العاطفية-الوجدانية المفكر فيها نحو موضوع معين. يقول سارتر في شرحه لهذا الجانب من جوانب الأنا: "أرى بيتر، أشعر بنوع من التشنج العميق والاشمئزاز والغضب عند رؤيته (وحتى هذه اللحظة لازلت في مستوى التأمل والتفكير): فالتشنج وعي. لا يمكن أن أكون مخطئا حين أقول: أشعر في هذه اللحظة باشمئزاز شديد تجاه بيتر. ولكن، هل تجربة الاشمئزاز هذه كراهية ؟ من الواضح أنها ليست كذلك. هذا إضافة إلى أنها ليست معطاة بوصفها كراهية. كرهت بيتر لمدة طويلة، وأعتقد أنني سأكرهه دائما في المستقبل. وبالتالي، فإن الوعي الفوري بالاشمئزاز يمكن أن لا يكون كراهية" تتشكل "الأحوال"، إذن، من مجموع الظواهر النفسية الممتدة عبر الزمن trans-phenomenales: المتعالية بالنظر إلى الحالة الخاصة المعيشة هنا والآن؛ وتتجلى الأحوال المتعالية للوعي من خلال الانفعالات التي يعيشها الفرد في اللحظة الراهنة كالاشمئزاز والتشنج وغير ذلك. فإذا كنت تكره شخصا ما فإن حالتك النفسية المتمثلة في الكراهية سوف تتجلى لوعيك من خلال عدد كبير من ردود الفعل العاطفية-الوجدانية تجاه ذلك الشخص في لحظات مختلفة. ولسوف تتشكل الكراهية بوصفها حالة نفسية متعالية من خلال وعيك بنمطك السلوكي المطبوع بذلك النوع من الانفعالات. وعندما تتشكل هذه الحالة ستولد في نفسك نوعا من الاشمئزاز والقرف من ذلك الشخص كلما رأيته. ويتألف "الفعل" action من سلسلة من الأفعال الصغيرة، وينشأ عنها مثلما تنشأ معزوفة البيانو عن سلسلة من حركات الأصابع وتتعالى عليها. لا يحصل الوعي في كل لحظة إلا بالأفعال الصغيرة أو الجزئية، وأما الفعل الشمولي الذي تؤلفه تلك الأفعال فإنه يبدو متعاليا على الوعي. وأما ما يجعل من الفعل الشمولي فعلا متعاليا فهو أن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى زمن لكي يتحقق، ولا يمكن بالتالي لجميع الأفعال أن تتحقق دفعة واحدة. ولذلك يأخذ مفهوم التعالي هنا دلالة زمنية ويدل على أن الفعل الشمولي هو فعل عبر- زمني أو عبر- ظاهري trans-phenomenal نظرا لكونه يتجلى من خلال عدد كبير من التمظهرات المتوالية في الزمن؛ وهذا ما يجعل الفعل الشمولي مشابها للمعزوفة في كيفية تشكله، مثله في ذلك مثل الأحوال النفسية السابقة الذكر(الكراهية والحب وما إلى ذلك). وتمثل الأفعال والأحوال النفسية وقائع تتمتع بوجود حقيقي، وتقدم نفسها في العالم على طريقة الأشجار والكراسي وما على ذلك. وإذا كانت الأفعال هي ما يجعل الأحوال تتجلى للوعي بوصفها موضوعات متعالية، فإن الأحوال تفصح عن نفسها من خلال مجموعة من الصفات. فإذا كان زيد يكره عمر ويكره يزيد وزينت ويحقد عليهم جميعا، قلنا عنه إنه رجل حقود. وهذا الحقد الذي يعتمل في نفسه لا يمثل خلاصة مواقفه من الآخرين فحسب، بل يمثل صفة من الصفات التي تفسر نزوعه إلى اتخاذ تلك المواقف. ولكن الصفات لا تعتبر من العناصر الضرورية التي تقوم عليها وحدة الأنا، إذ يمكن تشكيل فكرة عن هذا الأخير دون استحضار صفاته، لأن هذه الصفات لا تندرج في تكوينه الفعلي على اعتبار أنها ليست شيئا قائما بذاته كما هو الحال بالنسبة للأحوال والأفعال، بحيث يمكن القول إن وجودها عرضي أو مزيف. ومما يترتب عن ذلك أن الدراسات السيكولوجية لـ"لأنا" (والأنا الآخر)، التي أصبح لها الآن وجود بين أشياء العالم باعتبارها موضوعا متعاليا يجب أن تراعي في تحقيقاتها المبادئ التالية: § أن للأنا وجود فعلي في العالم مثل وجود المعزوفة؛ § وأنه يتشكل من الأفعال والأحوال النفسية مثلما تتشكل المعزوفة من النوطات المتعاقبة عبر الزمن؛ § وأنه لا ينفصل عن الأفعال والأحوال كالمعزوفة التي لا تنفصل عن النوطات المتعاقبة؛ § وأن الأفعال والأحوال لا تأتي كنتيجة للأنا كما أن النوطات لا تأتي كنتيجة للمعزوفة؛ § وأنه لا يمكن الإحاطة معرفيا بالأنا إلا بشكل تقريبي عن طريق التخمين انطلاقا من الأفعال والأحوال، فكما أن معرفتنا بالمعزوفة لا تتم إلا من خلال سماع متوالية من النوطات، كذلك فإن معرفتنا بالأنا لا تتحقق إلا من خلال الإحاطة بسلسلة الأفعال التي تتجلى من خلالها الأحوال. § ولكن هناك فرق بين معرفة المعزوفة ومعرفة الأنا: فبينما يكون من السهل سماع جميع النوطوات التي تتشكل منها المعزوفة، يكون من غير الممكن الإحاطة بكل فعل من الأفعال وبكل حالة من الحالات التي تندرج في تكوين الأنا. ولذلك تكون معرفتنا بالأنا دائما معرفة جزئية. § وأما الصفات (=كون المرء حقودا باغضا كارها لغيره) فليس لها وجود قائم بذاته، ولا يمكن اعتبارها سمات ثابتة.ولا يمكن القول بالتالي بأن السمات هي مصدر السلوك، وهو ما يدل عليه قول سارتر بأن الوجود (الذي يتجلى من خلال مجموعة من السلوكات) سابق على الماهية (التي تتشكل من بعض السمات الثابتة). وخلاصة القول إن معرفة الأنا، التي تظل دائما نسبية، تستوجب الإحاطة بأحوال الشخص وأفعاله التي يعتبر وجودها وجودا قائما بذاته. وأما الصفات أو السمات التي تبدو على أنها ثابتة (المزاج) فإنها لا تساعد على معرفة سلوك الفرد وفهمه طالما أنه ليس لها وجود فعلي أو قائم بذاته، وطالما أن وجودها عرضي أو مزيف. فلا يمكن القول مثلا إن زيد يحقد على عمر ويكرهه بسبب أن زيد رجل حقود على العموم، أو أن الكراهية صفة ثابتة من صفاته، ولما كانت العلاقات السببية في نظر سارتر لا تكون إلا بين الأشياء التي لها وجود فعلي قائم بذاته، فإنه يتعين دراسة السلوك البشري بصرف النظر عن الصفات أو السمات أو المزاج. فلو كان السلوك يتحدد بالمزاج وسماته لما كان هناك مجال للحرية، ولكان الإنسان خاضعا بشكل مطلق لحتمية بيولوجية موروثة. التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير 3. مسألة العلاقة بين الأنا والغير في فلسفة سارتر (الجزء الثالث) ترجع فكرة الأنا الخالصة الشفافة التي لا يقف أي حجاب بينها وبين نفسها، والتي تعي ذاتها بشكل فوري ومباشر إلى ديكارت، ثم انتقلت من بعده إلى هوسرلHusserl ليتلقاها سارتر بدوره ويكسبها أبعادا ودلالات جديدة. ومن خصائص الأنا عند ديكارت وهوسرل أنها ذاتية محايثة للوعي. وتتجلى فكرة المحايثة بوضوح من خلال تعريف ديكارت للأنا، فهي عنده عبارة عن "شيء يفكر" أو المحل الذي تجري فيه أفعال الوعي ومختلف أنواع الانفعالات. ذلك لأننا نكون على وعي بما يجري بداخلنا ونشعر بأنه جزء من ذواتنا، فهي إذن محايثة لوجودنا الذاتي. وأما ما يوجد خارج الوجود المحايث للذاتية فهو الغير. 3-1. صعوبة معرفة الغير إذا نظرنا إلى الأمور من وجهة النظر هذه، فإن كل ما يوجد خارج حقل الذاتية هو ما لست أنا (العالم المحيط بي، والجسم، والناس الآخرون)؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا توجد علاقة على المستوى الذاتي بيني وبين ما يوجد في العالم الخارجي؛ وبالتالي، فإن الغير الذي يطرح نفسه في العالم الخارجي، لا يستطيع أن يشعر بما أشعر به أنا، ولا أن يستمتع بأشكال الوعي والأفكار التي تولِّد في نفسي شعورا بالمتعة؛ وفي المقابل لا يمكنني معرفة الغير مثلما أعرف نفسي. فالأشياء التي أراها، والتي ليست أنا، يكتنفها الغموض وعدم اليقين، وقد تنقلب إلى أوهام في مخيلتي. ولما كنت أنا الذات التي تنظر وتتملى الأشياء التي تحيط بها، أو التي يبدو أنها الذات التي تنظر وتتملى، فلا يمكن وضعها موضع تساؤل أو شك. ولذلك كانت غيرية الشيء الذي أنظر إليه هي العلامة الدالة على غموضه ودونيته بالمقارنة مع الوقائع الذاتية المحايثة لوجود الأنا. ويرى سارتر من جهته أن الذاتية هي المعطى المباشر الذي يتم إدراكه بدون وسائط. تمثل الذاتية، في نظره المعطى المباشر؛ ينسجم هذا التصور مع تعريف كل من ديكارت وهوسرل للذاتية؛ ولكن سارتر ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه سابقوه في تجريدها من اللواحق الخارجية. ذلك لأن الذاتية في فلسفة كل من ديكارت وهوسرل لم تكن في مأمن من التأثيرات الخارجية بما في ذلك تأثير الأنا نفسه، ومعنى ذلك أن هاذين الفيلسوفين لم يفصلا بين الذاتية والأنا، بينما أقام سارتر تمييزا قاطعا بينهما. فالذاتية باعتبارها وعيا خالصا لا تنطوي على ما يمكن أن يقوم مقام الحامل لتيار الحياة المتدفق باستمرار. وأما "الأنا أفكر" أو الذات المفكرة، التي يمكن من حيث المبدأ تمييزها عن نشاط التفكير، فهي تمثل شيئا آخر بالنظر إلى الذاتية الخالصة؛ إن وجودها هو وجود متعالي بالنظر إلى الوقائع الذاتية المحايثة للوعي الخالص. كيف تتحدد طبيعة الأنا إذن من وجهة نظر سارتر؟ إنها الذات الفاعلة، الذات الخالصة المندفعة في العالم بوصفها الفاعل الذي تنسب إليه الأفعال، فتصير فلاحا أو فنانا أو فيلسوفا...وعندما تصبح الأنا ذاتا نشيطة تكون قد أصبحت عرضة لتأثير الظروف المحيطة بها، فعندما تلج العالم باعتبارها ذاتا فاعلة تتأثر أفعالها بمختلف أنواع العوامل والقوى الكامنة فيه، ويصل تأثيرها إلى صلب الأنا ذاتها. ولعل أول ما يؤثر في وجود الأنا في العالم هي الوسائل والأدوات التي تستعملها في أداء مختلف الأنشطة التي تقوم بها (أدوات العمل والأجهزة المفاهيمية وما إلى ذلك) وبالنتائج التي تتوقع الحصول عليها. ولكن أكثر ما يحدد وجود الأنا في العالم هي الأشياء التي تكون كيفية وجودها مختلفة عن كيفية تصورها أو الوعي بها. يمكن القول بعبارة أخرى إن ما يحدد وجود الأنا هي حقيقة الأشياء التي يمتد وجودها خلف مظاهرها، تلك الأشياء التي يكون باطنها أقوى من ظاهرها وأعتى مما نتصور. إن أقوى التأثيرات في نظر سارتر هي تلك التي تنبعث من خلف مظاهر الأشياء. وكذلك فإن ما يميز الذات الفاعلة الخالصة هو وعيها بالحياة التي تعيشها في اللحظة الراهنة وامتداداتها في الماضي والمستقبل. ومعنى ذلك أن للأنا أو الذات الفاعلة تاريخها الشخصي أو سيرتها الذاتية، ولها مشاريعها وتطلعاتها وآمالها وأهدافها الخاصة. وتتحدد طبيعة الأنا بنوع العلاقة التي تربطها بالماضي والمستقبل: فالأنا باعتبارها ذاتا فاعلة لا تعيش الماضي والحاضر في اللحظة الراهنة؛ وطالما أنها مسكونة بتجارب الماضي وهواجس المستقبل دون أن تؤثر فيها بشكل مباشر، فإن الماضي والحاضر يمثلان شيئا آخر مختلفا تمام الاختلاف عن تجربة الحياة الراهنة. ومعنى ذلك أنه طالما أن تجارب الماضي والتجارب المتوقعة في المستقبل تتجاوز وعيي بها في اللحظة الراهنة من حيث أن الوجود في الماضي وفي المستقبل هو أكثر مما أتصور، لأن التصور أو الظاهر لا يرقى أبدا إلى مستوى الواقع الموجود خلفه. ويخلص سارتر من ذلك كله إلى القول بأن الماضي والمستقبل يمثلان نوعا من الوقائع المتعالية، بمعنى أنهما لا ينتميان إلى تجربة الأنا في الحياة الراهنة. فإن أنت كرهت شخصا في الماضي لمدة طويلة، فإن الشعور بالامتعاض سيسطر عليك عندما تراه، وسينتابك نفس الشعور في المستقبل كلما رأيته؛ فالكراهية متعالية بالنظر إلى هذا الشعور: تغمر التجربة الشعورية الراهنة وتؤثثها لما لها من تاريخ طويل. والنتيجة هي أن للأنا وجود متعالي عن ظروف الزمان والمكان. ومن هنا يطرح السؤال: كيف تتحدد العلاقة بين الأنا المتعالية والوعي المحايث للوقائع الذاتية؟ وما طبيعة العلاقة بين الذات الفاعلة الخالصة والغير في غمرة الحياة؟ هناك علاقة بين هذين السؤالين من حيث أن العلاقة بين الأنا المتعالية والتجارب الشعورية الراهنة توفر الإطار المناسب لفهم العلاقة بالغير. ذلك لأن الغير في نظر سارتر هو أنا آخر متعالي. إن فهم الطبيعة المتعالية للأنا في علاقته بالوعي المحايث لتجربتي الذاتية سيساعدني على فهم طبيعة العلاقة بين الغير بوصفه أنا آخر متعالي والوقائع الذاتية لتجربتي الراهنة، لأن غيرية الآخر هي امتداد لغيرية الأنا في نظر سارتر. ولكن، ما المقصود بغيرية الأنا؟ هل تعني وجود شرخ في الحياة الذاتية يقسمها إلى شطرين ويجعلها مستلبة الهوية؟ يعتقد سارتر بوجود اختلاف أنطلوجي بين شكل وجود الذات أو ما يسميه بالوعي الخالص وبين وجود الأنا. فالأنا هو شيء آخر مختلف اختلافا جوهريا عن الوعي أو حياة الشعور؛ فللأنا وجود متعالي بالنظر إلى وقائع الشعور والوعي، إنه من جملة الأشياء المتعالية التي يكون ظاهرها أقل بكثير من حقيقة وجودها كما هي في ذاتها. إن الأنا المتعالية ليست دائما كما نتصورها، هناك مسافة بين حقيقة وجودها وبين كيفية تصورنا لها، فهي تختفي خلف مظاهرها، إنها ليست شفافة. ولذلك يمكن تصنيفها ضمن الأشياء المادية التي توجد في العالم الخارجي. وما يميز الأنا عن موضوعات العالم الخارجي هو نظرتي إليها باعتبارها مِلكا لي، بل إنها المرجع الذي يمثل أسلوبي الخاص في الحياة وإليها ترجع كل أفعالي وتسمها بميسمها الخاص، إنها عنوان شخصيتي. تتحدد شخصيتي بكيفية نظرتي إلى أناي، إنها ليست أكثر من وهم طالما أنني لا أدرك منها سوى مظاهرها كما تفرض نفسها علي. وهكذا، فإن تصوري لهويتي لا يعدو أن يكون مجرد وهم من الأوهام. ولما كانت الأنا متعالية بالنظر إلى تجارب الوعي والشعور فإنه لا يجوز تصنيفها ضمن تجارب الشعور، إنها تمثل الغير بالنظر إلى الوعي المحايث لتجربتي الوجودية أو الذاتية. ومن هنا يمكن القول إن الأنا ليست ذاتا فاعلة أخرى ووعيا مثل كوني ذات فاعلة واعية بما يجري فيها من وقائع شعورية. ذلك لأن التجربة الذاتية واحدة لا تقبل الانقسام، ولا ترضى أن يضاف إليها شيء آخر من الخارج. إن الأنا شيء خارجي بالنظر إلى التجربة الذاتية الحميمة، ولا تفتح له هذه التجربة أبوابها. إنها ذاتية خالصة، وعي خالص. ولما كان الغير أنا آخر فإنه سيظل بدوره بعيدا وغريبا عن تجارب الحياة الذاتية الخالصة. <table id="post5345217" class="tborder" align="center" border="0" cellpadding="6" cellspacing="1" width="100%"><tr valign="top"><td class="alt1" id="td_post_5345217"> إن الأخر بالنسبة لي ليس وعيا خالصا أو ذاتا فاعلة، بل هو شيء من الأشياء المتعالية التي لا أدرك منها غير مظهرها الخارجي. يدل مفهوم التعالي هنا على الاختلاف، كما يشير إلى الغموض وعدم اليقين. لا يمكنني أن أعرف عنه أكثر مما أعرف عن أناي: مظاهره الخادعة؛ وعندما أريد الإحاطة به، لا أعمل سوى على إسقاط تصوراتي عن أناي عليه. وهكذا أتصور الناس الذين يحيطون بي على أنهم ذوات فاعلة بينما هم في الواقع أشياء لا تختلف عن أشياء الطبيعة بالنظر إلى علاقتهم بي، فهذه العلاقة لا تسمح لي بالشعور بما يشعرون ، ولا أن يشعروا بما أشعر. وفي الحقيقة، فإن سارتر لا يستبعد وجود حياة ذاتية خلف وجود الأنا الآخر، ولكنه لم يجد سبيلا للاقتراب منها وملامستها بشكل مباشر في كتاباته المبكرة وعلى رأسها الكتاب المشار إليه في مقدمة هذا العرض. ليس بوسع الذات الفاعلة بما تنطوي عليه من وعي وشعور أن تحيط بالتجارب الشعورية المفترض وجودها لدى الغير في نظر سارتر، بإمكانها أن تدرك الموضوعات بما في ذلك الأنا الآخر مثلما تعي وتدرك إنيتها بشكل من الأشكال، ولكنها لا تستطيع الإحاطة بالذوات الأخرى. فلكي تدرك الذات الفاعلة ذاتا فاعلة أخرى يتعين عليها أن تكون قادرة على تمثل ذاتها كذات أخرى، وأن تعيش تجربتها الذاتية كما لو كانت مختلفة عن ذاتها، كما لو خرجت من نفسها لتصبح غير شفافة حين تنظر إلى نفسها بعين الآخر. يمكن القول بعبارة أخرى: إن عليها أن تعيش غيريتها من الداخل، أي داخل حياة الوعي والشعور، تلك الغيرية المنبثقة من الداخل والتي تشطر تلك الحياة إلى قسمين، الغيرية التي تكون غيرية بالنسبة للوعي والشعور لا بالنسبة للموضوع المتعالي.. ، الأنا والغير لدى جان بول سارتر - 1 ٍ التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير في فلسفة سارتر أحمد أغبال كيف يتحدد مفهوم الوعي ومفهوم الأنا في فلسفة سارتر؟ وما نوع العلاقة بينهما؟ وكيف تتحدد العلاقة بين الأنا والغير في إطار هذه الفلسفة؟ سوف نتطرق في لحظة أولى إلى هذه القضايا في ضوء نظرية الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر المبسوطة في كتابه الموسوم بـ"تعالي الأنا" ([ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط])ثم نقوم في لحظة ثانية برصد تطور مواقفه من مسألة الغيرية في أعماله المتأخرة التي تناول فيها قضايا الخيال والصور الفنية. 1. مفهوم الأنا المتعالي في فلسفة سارتر يعتبر كتاب "تعالي الأنا" محاولة لوصف وتحليل ظواهر الوعي والوقائع الجوانية من وجهة نظر فينومينولوجية. ويهدف إلى بيان ما إذا كان الأنا ظاهرة من ظواهر الوعي ذاته كما هو الحال بالنسبة لكل من ديكارت وكانط وهوسرل، أم أنه موضوع من موضوعات العالم كالأشجار والكراسي وما إلى ذلك. وأما أطروحته الأساسية في هذا المجال فتتمثل في جوابه عن السؤال: "من أنا ؟" أو بعبارة أخرى: ما هي طبيعة أناي؟ وقبل أن يقدم أطروحته التي تمثل جوابه على هذا السؤال استهل كتابه بنقد تصورات بعض الفلاسفة من أمثال هوسرل وكانط وديكارت للأنا. نقرأ في مقدمة الكتاب: "إن الأنا بالنسبة لمعظم الفلاسفة "كائن يسكن" الوعي. ويدعي بعضهم أن له حضور شكلي في صميم تجربة الحياة كمبدأ فارغ للتوحيد [= يؤدي وظيفة التوحيد أو التركيب]. ويدعي آخرون – وهم في الغالب الأعم من علماء النفس – أنهم اكتشفوا حضوره المادي في كل لحظة من لحظات حياتنا النفسية بوصفه مركز الرغبات والأفعال. ونود أن نبين هنا أن الأنا لا يوجد في الوعي لا شكلا ولا مضمونا، بل في الخارج، في العالم؛ إنه كائن من كائنات العالم، تماما مثل ما هو الحال بالنسبة لأنا الغير" تلخص هذه الفقرة مآخذ سارتر على الفلاسفة والمفكرين الذين يقولون بأن الأنا المتعالية هي المبدأ الشكلي الضروري لنشاط الوعي، وهي الأطروحة التي تبناها كل من كانط وهوسرل، كما أنه رفض الأطروحة التي تقول بأن الأنا المتعالي توجد على مستوى نشاط الوعي والتفكير، في أحضان الذات المفكرة، وهي الأطروحة التي نجدها عند كل من ديكارت وهوسرل. وبعد أن عبر عن موقفه الرافض لهاتين الأطروحتين قدم بديلا عنها، وهو أطروحته التي تقول: إن الأنا بطبيعته وتكوينه متعالي عن الوعي. وقبل أن نستعرض تفاصيل هده الأطروحة ومبرراتها وما يترتب عنها، دعونا نستعرض أهم مآخذ سارتر على الأطروحات السابقة. يقول هوسرل: إن الوعي هو دائما وعي بشيء ما، فهو يتجه دائما نحو موضوع ما ويكشف عنه، مثله في ذلك مثل شعاع الضوء، يسقط على الأجسام فتتجلى للناظر إليها. توحي هذه الفكرة، إذا نظرنا إليها من وجهة نظر سارتر، بأن وراء كل وعي "بنية وعي ضرورية" تنير بأشعتها الظواهر الموجودة في الحقل الذي يتجه إليه الانتباه (=القصدية). وهكذا تكتسي بنية الوعي الضرورية أو الأنا المتعالية طابعا خاصا وتصبح شخصية بالكامل. ومن هنا كان تساؤل سارت: هل كان من الضروري أن يلجأ هوسرل إلى هذا المفهوم؟ وهل ينسجم مع تعريفه للوعي؟ وكان جوابه طبعا بالسلب. وإنما اعترض سارتر على تصور هوسرل للأنا المتعالية بدعوى أن إدراج "بنية الوعي الضرورية" في العالم المتعالي سيؤدي إلى فساده من خلال حدوث شرخ في الوعي وانقسامه على نفسه؛ وسيؤدي الأنا المتعالي بذلك في اعتقاده إلى موت الوعي. وإنما أراد سارتر بنقده لهذه الأطروحة أن يفرغ الوعي من أي محتوى ليجعله شفافا ولاشخصيا. وأما القول بأن الأنا المتعالية هي الشرط الشكلي الضروري لقيام الوحدة وبناء التركيبات، فهو قول مردود في نظر سارتر: إن الأنا المتعالية ليست الشرط الضروري الذي يضمن وحدة الوعي وتفرده، بل، وعلى العكس من ذلك، فإن وحدة الوعي هي التي تقف خلف تشكل الأنا. فالأنا الذي نصادفه على مستوى الوعي إنما يعبر عن الوحدة التركيبية لتمثلاتنا، تلك التركيبة التي تنصهر فيها وتتوحد مختلف أبعاد الوعي ومكوناته على نحو مخصوص، وهذا ما يجعل من الممكن التمييز بين "وعي" وآخر، بين حياة الوعي لدى زيد وحياة الوعي لدى عمر. فلابد أن يكون هناك خيط رابط يوحد بين مكونات الوعي لدى زيد ويمنح لوعيه خصوصية تميزه عن عمر. حاول سارتر الدفاع عن أطروحته تلك في كتابه "تعالي الأنا" الذي يمثل بداية قطيعته مع هوسرل؛ ولكن الحلول التي اقترحها لمسألة العلاقة بين الوعي والأنا ومسألة الغيرية ظلت محدودة وغير مكتملة حسب تقديرات المحللين، ولعلها كانت مشاريع حلول أو حلول تجريبية، وربما كان سارتر على وعي تام بذلك قبل أن يتداول فيه المحللون؛ لاشك في أنه كان ينظر إليها على أنها حلول مؤقتة لإشكالات عويصة كما يوحي بذلك العنوان الفرعي للكتاب(*)؛ يفهم من هذا العنوان على أن الكتاب ليس أكثر من خطاطة عامة تمثل الخطوط العريضة لمشروع بعيد المدى يهدف، من بين ما يهدف إليه، إلى الكشف عن طبيعة الوعي، والمبدأ الذي تقوم عليه وحدته وتفرده، وعلاقته بالأنا وبالغير. ففيما يتعلق بوحدة الوعي، يرى سارتر أن في كل لحظة من لحظات الوعي، أي عندما نكون أمام موضوع ما، فإنه من الضروري أن تتوحد عمليات الوعي في مواجهتنا لذلك الموضوع؛ فعندما يعض زيد تفاحة، فإن جميع عناصر الإدراك من خشخشة وطعم ورائحة وما إلى ذلك يكون لها حينئذ حضور في وعي واحد متفرد هو وعي زيد. فما الذي يمنح لوعي زيد وحدته ويجعل المدركات تنصهر فيه في إطار تركيبة متميزة ؟ لو طرحتا هذا السؤال على كانط لأجاب: إنه الأنا المتعالي؛ ويرى سارتر على العكس من ذلك بأن الوعي يستمد وحدته من الموضوع لا من الأنا المتعالي، وهو ما عبر عنه بقوله: "إن وحدة الوعي توجد على مستوى الموضوع". إن الوحدة التي يشير إليها سارتر هنا هي وحدة "المئات من أنواع الوعي النشيطة" التي ينصب اهتمامها على نفس الموضوع. وترتبط هذه الوحدة بالمستوى المتعالي من الموضوع الذي يتجه إليه الانتباه. والمقصود بتعالي الموضوع هنا امتداده إلى ما وراء التجربة الراهنة في اتجاه الماضي والمستقبل، حيث أصبحت مظاهره الآنية تتوحد بمظاهره في الزمن الماضي والمستقبل. إن الموضوع الذي يتجاوز لحظته بمظاهره العابرة للأزمان هو موضوع متعالي أو ذو وحدة متعالية؛ وبناء على ذلك يمكن القول بأن وحدة الوعي ليست شيئا آخر غير الوعي بتلك الوحدة المتعالية، إنها الوعي الخالص، ذلك الوعي الذي تم تطهيره من شوائب الأنا أو بنيته ليصبح مجرد علاقة فارغة بالوحدة المتعالية لموضوعه. ولكن، ما الذي يضمن استمرار وحدة الوعي عبر الزمن ؟ للإجابة على هذا السؤال لجأ سارتر إلى مفهوم الوعي الزمني conscience temporelle الذي استعاره عن هوسرل والذي يدل على أبعاد الوعي الثلاث في علاقته بالزمن، وهي: القصد intention ويعني في نفس الوقت الاتجاه المفرغ/المحايد نحو موضوع ما (موضوع القصد objetintentionnel) والفعل الذي يضفي المعاني والدلالات على ذلك الموضوع؛ التوجه القصدي نحو المستقبل protentionوهو نوع من التوقع المرتبط باللحظة الراهنة ارتباطا جوهريا ويستبق الأحداث قبل وقوعها. فعندما تسمع نوطة موسيقية، فإنها لا تصبح جزءا من معزوفة في وعيك إلا إذا تلتها نوطات أخرى، وكنت تتوقع سماعها على نحو ما. فالتوقع هو جزء من إدراك النوطة بوصفها جزء لا يتجزأ من المعزوفة. التذكر rétention، وهو استحضار وقائع الماضي الفوري في الوعي، فكما أن النوطة لا تعتبر جزءا من معزوفة إلا بتوفر شرط القدرة على توقع ما يليها، كذلك لا بمكن إدراكها بوصفها جزءا من المعزوفة إلا إذا توفرت القدرة على استحضار النوطات التي سبقتها على الفور. وفي حال عدم توفر هذا الشرط فسيكون من المستحيل إدراك ما يجري في الزمن. وهكذا، وبالعودة إلى مفهوم الوعي الزمني أو القصدية ذات الأبعاد الزمنية الثلاث يكون سارتر قد وجد لأطروحته حول وحدة الوعي دعامة قوية. يقوم هذا الدليل على مصادرة أساسية مفادها أن الزمن الداخلي يتألف في الواقع من عدة لحظات مبثوثة فيه بشكل ضمني. والمقصود بذلك أن كل وعي ينطوي في ذاته على الوعي بالماضي الفوري في علاقته بالوعي بما يجري في اللحظة الراهنة وامتداداته نحو المستقبل. وهكذا تتحقق وحدة الوعي دونما حاجة إلى وجود الأنا المتعالي الذي يعتبره هوسرل وكانط الشرط الضروري لقيام تلك الوحدة. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] التحليل الفينومينولوجي لظواهر الوعي والأنا والغير 3-2. معرفة الغير: الغيرية بوصفها غيابا في فلسفة سارتر (الجزء الرابع) يرى سارتر أن الذاتية المنشطرة والمنقسمة على ذاتها، الذاتية التي تكون هي ذاتها وغيرها في نفس الوقت، هي وحدها الكفيلة بإدراك ذاتية الغير تتجلى هذه الفكرة بوضوح في أعمال سارتر المتأخرة، وخاصة في بحوثه حول الخيال، تلك البحوث التي اعتمد فيها على مقاربة جديدة للذاتية تنظر إلى الذات الفاعلة على أنها هي "ذاتها وغبرها" في نفس الوقت. ترتكز هذه المقاربة على مصادرة مفادها أن الشخص الذي تمثله الصورة أو التمثل الذهني هو الغير بالنسبة للشخص الأصلي. وهكذا، فإن ما تمثله الصورة أو التمثل هو الغيرية التي تحل محل الشخص الأصلي عند غيابه. ومعنى ذلك أن الشخص عندما يتوارى عن الأنظار يظل حاضرا في الذهن في شكل تمثل أو صورة خيالية، وهي غيريته؛ إن موضوع الصورة يقدم نفسه لحظة الغياب باعتباره غيرية. تستمد الغيرية، التي يمثلها الموضوع المتخيل، وجودها عند سارتر من الغياب الفعلي للذات الفاعلة الأصلية. يمكن القول بعبارة أخرى إن ما يحضر في التمثل هو غيرية الشخص الغائب الذي تمثله الصورة المتخيلة. فالصورة المتخيلة تجعل صديقي الغائب كما لو كان حاضرا. إن وجوده في مخيلتي أشبه ما يكون بالحضور؛ وبسبب شكل وجوده المتمثل في شبه الحضور يبدو كما لو كان من غير الممكن الوصول إليه والإحاطة به، كما لو أن الصورة الماثلة في الذهن مسكونة بنوع من العدم. فعندما ترتسم ملامح صديقي الغائب في مخيلتي فإنني لا أحس بشيء آخر غير لاوجوده أو فقدانه، مثلما تشعرني صورة عزيز غال علي برحيله الأبدي بعد موته. وهكذا، فإن هذا النوع من الإدراك الحسي للعدم، للاوجود وللغيرية لا يتحقق إلا في حال الغياب الفعلي للشخص. يدل هذا التحليل على أن المتخيَّل، في نظر سارتر، هو قبل كل شيء صورة حسية أو تمثل حسي للشخص الغائب الذي يمثل النموذج الذي رسمت الصورة على منواله في الذهن؛ ولا يمكن إنتاج هذه الصورة إلا عندما يغيب الموضوع الأصلي. فعندما نرغب في ملاقاة شخص ما، ويكون من غير الممكن إحضاره شخصيا، نستحضره في شكل صورة من صور الخيال في الذهن. لا نتخيل الأشياء إلا عندما تستحيل رؤيتها بالعين، ونعوض عن ذلك برؤيتها بعيون خفية، وهي الفنطاسيا. وكان هوسرل هو أول من أولى لهذه المسألة عناية خاصة، حيث حاول أن يبين كيف تتبدى الصورة في الوعي، وكيف تجعل الغائب يتجلى في الذهن، وكيف ينعش الذهني ويستعمل مادة الصورة لخلق استيهامات أو فنطاسيا حول الشخص الذي تمثله الصورة. وكان هدفه هو صياغة نظرية لتفسير كيفية اشتغال الخيال انطلاقا من تحليل الصورة الذهنية أو الصورة كما هي في الوعي picture-consciousness، نظرية تشمل الصورة الحسية (الذهنية) التي تشبه الصورة الفوتوغرافية والصورة الداخلية (الفنطاسيا) المجرة من الخواص الحسية والتي تشتغل مثلما تشتغل الصورة الحسية بحكم اشتراكهما في الخصائص البنيوية. ولكن هوسرل تخلى عن هذا المشروع لسبب بسيط هو أن الصورة اللامادية التي يريد إدراجها في تشكيلة الفنطاسيا تؤدي في اعتقاده إلى الوقوع في نوع من التناقض، لأن الغرض من الصورة أصلا هو أن تعكس الموضوع الأصلي وتجعل حضوره في الذهن محسوسا بشكل من الأشكال، بينما تمثل الفنطاسيا الصورة الخالصة المجردة من الخواص الحسية، ولذلك يتعذر الجمع بينهما ضمن مفهوم واحدة. وتولى سارتر مهمة استكمال هذا المشروع في محاولة لإثبات أن مفهوم الفنطاسيا يشمل الصورة الذهنية الحسية. إن الصور الذهنية في نظره ليست صورا لامادية، فهي صور ذات مضمون فيزيقي، ولكن طابعها الفيزيقي ليس معطى بشكل مباشر، فهي ليست كالصور الفوتوغرافية التي يمكن رؤيتها ولمسها. وأما ما يجمع بين الصورة الذهنية والصورة الفوتوغرافية فهو أن كليهما يستحضر موضوعا غائبا؛ فعندما أستحضر صورة صديقي في الذهن أجدني في وضعية لا تختلف عن الوضعية التي أكون فيها حين أرى صورته الفوتوغرافية. تؤدي الصورتان، إذن، نفس الوظيفة، مما يدل على أن للصورة الذهنية مضمون حسي وإن كان هذا المضمون يفتقر إلى الكثير من التفاصيل مقارنة بمضمون الصورة الفوتوغرافية. ومن هنا يمكن القول بأن الصورة الذهنية هي صورة حسية، تلك الصورة التي تمثل الغائب أو غيريته، وعليها أسس سارتر نظرية الخيال. تشترط نظرية الخيال عند سارتر أن يكون الشخص الأصلي غائبا، وأما ما تنتجه المخيلة من صور فلا تستحضر منه سوى غيريته. تتحدد الغيرية، إذن، بالغياب، إنها الغياب الكامل للأصل الحاضر في التمثل. فعندما يحضر صديقي أستغني عن الصور التي تمثله في الغياب، ومن ثمة تتوارى غيريته، لأن الصورة الذهنية تقترن بالغياب ولا تعبر إلا عن الغياب وتدل بالتالي على استحالة الوصول إلى الأصل والإحاطة به. ولكن غياب الأصل ليس غيابا كليا راديكاليا أو مطلقا، إنه غياب مؤقت فحسب؛ والسؤال المطروح الآن هو: هل يساعد هذا النوع من الغياب على معرفة الغيرية طالما أنه ليس غيابا كليا ؟ </td> </tr> </table> |
مواضيع مماثلة
» الفلسفة للشعب العلمية (تونس)الجزء 2
» الفلسفة للشعب العلمية (تونس)الجزء 4
» الفلسفة للشعب العلمية (تونس)
» الموسوعة العلمية 2
» كل فروض الفلسفة
» الفلسفة للشعب العلمية (تونس)الجزء 4
» الفلسفة للشعب العلمية (تونس)
» الموسوعة العلمية 2
» كل فروض الفلسفة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى